[size=24]كان
العرب قبل الإسلام لا يعرفون فن الرسم والتصوير كسبيل للتعبير عن حالهم أو
ماضيهم أو حضارتهم كما هو الحال فى الزمن الموازى فى الحضارة الأوروبية
آنذاك التى كانت تجسد حضارتها من خلال الرسم, ولكن لأن كل حضارة قديمة
ازدهرت أو اندثرت كان يتوجب عليها اتخاذ دأب للتعبير عن ذاتها، فقد مثَّل
الشِّعْر المعادل الموضوعى للتعبير عند العرب بديلا عن التصوير والرسم,
وكان الشعر بكل صنوفه من الحب للغزل للهجر وصولا إلى الهجاء والمدح
والرثاء يكوِّن فى النهاية صورة متكاملة عن هذه الحضارة التى لم تخرج عن
مكة ويثرب - المدينة فيما بعد -.
ولا شك أنه بعد سطوع الإسلام على الجزيرة العربية كانت شخصية النبى
ووصف سمته شكلا وأخلاقا وحضورا يأخذ الاهتمام الأول والأوحد للتعبير, ولكن
المشهد الشعرى المعتاد فى التعبير العربى غاب عن الواجهة ليتوارى خلف
الآيات النازلة بالوحى على النبى، وليس معنى ذلك أن القرآن كان بديلا عن
الشِّعْر, ولكن المعنى أن القرآن فى هذا الشأن خاصة قد مثل المعادل
السماوى لتصوير الزمن الإسلامى والتعبير عنه فى وقت النبوة بعهديه المكى
والمدنى، ومن خلال هذا التصور خط القرآن لوحة متكاملة الأبعاد, نقية
وصادقة عن زمن وزمان النبوة وبالتبعية عن شخص النبى المصطفى وحياته, فكان
وصف النبى فى القرآن وصفا يغنى عن غيره, ورغم عودة الشعر للصورة التعبيرية
عن النبى بدءاً من الصحابى الشاعر «حسان بن ثابت» وصولاً إلى كشوفات
وفتوحات التصوف الإسلامى فى وصف النبى مثل بردة البوصيرى وغيرها كمحاكاة
لاستلهام الوصف القرآنى للنبى وإلقاء ظل له أو منه على الأبيات الشعرية.
ثم فى مرحلة لاحقة ظهرت الروايات البشرية التى تتحدث عن تصور مصاحب
لشخص وحياة النبى ودخلت فى تركيبة المعادلة بعد قرابة قرن من الزمان من
وفاة النبى عليه صلوات الله, حيث بدأت الروايات تتجمع وتترافد من كل حدب
وصوب بقصد استجماع السُّنة الفعلية والقولية والتقريرية للنبى، وهذا بلا
شك منحى واتجاه كان الإسلام محتاجا إليه بالضرورة الدينية والعملية.
ثم كانت المرحلة الثانية بعد تجمع وتجميع العديد من الروايات وهى
مرحلة تدوين هذه الروايات فى مصنفات - كتب - وقد كان «الموطأ» للإمام مالك
له السبق فى تدوين السنن لأيام رسول الله وأفعاله وتقريراته, لذا فإننا
نجد «الموطأ» خالياً من كل خرف وسخافة تنتقص من قدر النبى والنبوة وذلك
لقرب العهد بالنبى، ومكث الإمام «مالك» بالمدينة ليستقى العلم من منبعه
وغديره بدلا من ركوب العير والبعير بحثا عن العلم عند غير أهله.
وفى مرحلة التدوين المتأخرة بعد الإمام «مالك» مع بداية القرن الثالث
الهجرى انتقلت الروايات لتمثل لوحة موازية لحياة النبى ذات أبعاد مساوية
للَّوحة النقية الصادقة التى خطها القرآن لتصور شخصية وسمت الرسول عليه
صلوات الله, ومن هنا بدأت الأزمة فى التبلور, الأزمة بين اللوحتين
المتوازيتين عن رسول الله, لوحة القرآن الإلهى الصادق المتواتر المحفوظ,
ولوحة الروايات البشرية المضطربة غير المتواترة ولا المحفوظة.
وقد كان من المفترض أن هذا التوازى للَّوحتين فى التصور لحياة النبى
يقابله بالضرورة خطان متوازيان لطبيعة هذا التصور عن النبى، وكان الحق
الذى لا مراء فيه والأوْلى أن يُتَّبع أنه إذا ما تضاد التصور فى لوحة
الروايات البشرية عن النبى - وهى الأدنى - وجب ضبطه باللوحة الأعلى
والأصدق من خلال القرآن, أو بمعنى أوضح أن اللوحتين، وإن كانتا متوازيتين
شكلاً فى وصف رسول الله، لكنهما غير متساويتين موضوعا ولا صدقاً, حيث لا
شك أن القرآن بأقل حروفه أصدق قيلا وخطا ورسما من أقوى وأعلى الروايات وإن
كثرت.
ولكن الفتق لما اتسع والرقعة عندما اهترأت مع تطاول الزمان وتطاول
الأسانيد للروايات التى تصور حياة رسول الله ودخول الكذابين والمدلسين
والوضاعين فى لعبة الرواة وانتقال مركز القوة لحفظ وتدوين الروايات إلى
العراق مع نهاية القرن الثانى الهجرى، اكتسبت فكرة السند حينها قوة تعتمد
على تقديس وتصديق مبالغ فيه للأشخاص الذين حفظوا ونقلوا هذه الروايات
المنتثرة ثم تقديس أكبر وأجل وأعظم للأشخاص الذين دونوا وأخرجوا هذه
الروايات فى شكل مصنفات وكتب مرقومة, حتى ولو كانت هذه الروايات عن تصور
حياة النبى على الضد والنقيض والعكس والخلاف من اللوحة القرآنية عن النبى.
ومذ ذلك الحين بدأ الخرف والجهالة والسقم تتخذ مواضعها القيادية فى
الوعى الجماعى والفردى للمجتمع المسلم, حيث ارتقت وتطورت فكرة الإسناد
للرواية باتجاه عكسى من هدفها الأساس الذى كان محاولة التثبت والتحرى من
دقة الرواية, إلى قيد على استحالة رفضها ولو خالفت القرآن والمنصوص
والمعقول.
وهنا بدأت المأساة تتضاعف وتتضخم حيث دخلت هذه الروايات المشوَّهة
تتبختر إلى كتب الحديث والتفسير متكئة على فكرة قوة السند وضعفه, وأُطْلقت
من حينها كالسهم فى عمق الزمان الإسلامى لتمثل وجها قبيحا عن التصور
الصحيح والنقى لحياة النبى بالخصوص, وقد كان الإسلام والمسلمون فى غنى عن
ذلك لو كلف المحدثون - أهل الحديث - فى بداية القرن الثالث الهجرى أنفسهم
بمحو هذا الخرف والتشويه الذى تسرب كبقعة زيت من خلال ضبطه بميزان اللوحة
القرآنية الأصدق والأنصع, ولكن كيف وقد أخذ علم التحوير والتحويل
والالتفاف يتجسد وبدأ سند الرواية يقف ندا موازيا للقرآن رغم أنه من
المفترض أن يكون السند والرواية معا منضويين تحت لوائه, فلا يخرجان عن خطه
ولا يتحولان عن سمته, ولكن البيعة الخاسرة تمت وأصبح السند ولو جاء برواية
تحمل كل مرذول ومكذوب كافيا لأن تُدس الرواية بين ثنايا الكتب.
وكان استمراء واستعذاب ذلك إيذانا بالتحول الثالث الأسوأ والأخسر على
الإطلاق, حيث باتت اللوحتان المتوازيتان والمتوافقتان سابقاً - لوحة
القرآن ولوحة الروايات على نقيض, وأمست لوحة الروايات التى تصور شخص النبى
وحياته فى أغلبها وجلها لوحة معاكسة ومناقضة للوحة القرآنية التى كان من
المفترض أن تمثل فرزا نهائيا لما يمكن قبوله وتدوينه على شخص وحياة النبى
فى كتب الحديث والسنن.
وقد كان تعاظم دور هذه الروايات المناقضة للقرآن والمعتمدة على السند
له أسوأ الأثر على العقل المسلم, حيث شوهت الأبعاد المختلطة والألوان
المتنافرة فى كتب الحديث والتفسير الصورة كلها, لأنه كان من المنطقى أن
تُشْرح وتُفسَّر الروايات من خلال القرآن ولا يُشْرح أو يُفسَّر القرآن
بالروايات, ولكن العكس من ذلك قد وقع.
وأذكر أن أول مقال نشرناه فى «اليوم السابع» على موقعها الإلكترونى
قبل خروج الإصدار الورقى للحياة - كان مقالاً عن الرسام الذى أساءت
رسوماته للنبى عليه صلوات الله, وتساءلنا فيه سؤالاً قد يكون فى موضعه
وقلنا نصاً: «أنا لا أدافع عمن رسم النبى بهذا الشكل إطلاقاً ولا ينبغى لى
ولا أستطيع، ولكنى أتساءل وأعرف الإجابة: من أين استقى هذا الرسام أو غيره
صورته عن النبى - صلى الله عليه وسلم؟ من كتب التراث ولا ريب», ثم قلنا
نصا فى خاتمة المقال: «فمن هو النبى إذن، هل هو الذى رسم الله سمته
بالسراج المنير فى القرآن، أم هو نبى الطبرى وكتب الحديث والسير؟».
وهذه هى المسألة, مسألة تعارض اللوحتين المرسومتين والمخطوطتين عن شخص
النبى وحياته, فواحدة قرآنية تخط بقلم غاية فى الدقة صورة مكتملة النقاء,
وأخرى رواياتية ترسم فى أكثرها صورة شائهة يحار فيها النظر كيف يواريها عن
عينيه.
وقد يعلم كثير من العقلاء أن الروايات من هذه الشاكلة التى طالما
فندناها فى مقالاتنا السابقة هى معين لا ينضب فى كتب التراث, لذا نقف
بالنظر مع إحدى هذه الروايات الناشزة التى تدلل عمليا على ما ذكرناه,
ولننظر أيضاً كيف كان التساهل فى تدوين وإخراج الروايات حول إمام المرسلين
دون النظر لمحالها وعواقبها.
وهذه الرواية التى نحن بصددها أخرجها «البخارى» فى باب بدء الوحى
للنبى، وهى مرحلة ذات طبيعة خاصة ودقيقة فى حياة رسول الله, وكان يتوجب
على العقلاء التروى والتثبت فى النقل بشأنها لسببين.
الأول: هو كونها مرحلة خطرة شابها الكثير من الادعاءات على النبى
بالكذب من القريشيين نزلت الآيات تترى بتأييده لذا فإن الخوض فيها بتساهل
إنما هو خوض فى النبوة.
الثانى: أن التثبت من صدق رواية مكية فى بدء البعثة بل فى بواكير
أيامها هو أمر بالغ الصعوبة والتعقيد, فالحديث عن الوقائع فى بداية البعثة
النبوية يكاد يكون ظنا أقرب منه لليقين, لأن النبى لم يحك ويسهب ويسرد عن
هذه الوقائع للمتأخرين فى إسلامهم من الصحابة فى مرحلة المدينة إلا بقدر
ضئيل, كما أن أغلب ونستطيع أن نقول كل الصحابة السابقين بالإسلام فى تلك
الفترة المتقدمة كانوا من المقلين والعازفين عن الخوض والإكثار فى الرواية
عن أو على النبى كما هو حال أشياخ الصحابة العظام, لذا فإن القول بالتثبت
من صحة رواية تحكى وقائع فى بواكير البعثة النبوية يكاد يكون أمرا مستحيلا
إلا من خلال بعض روايات فى العهد المدنى جاءت من طريق صحابة لم يعايش
أغلبهم بدء نزول الوحى على النبى ولكنهم رووا مما سمعوه من رسول الله عن
تلك الفترة وهو قليل جداً.
وكل تلك الأسباب مجتمعة إنما كانت لتنتج - عند العقلاء فقط - حسابا
وحذراً من تلقى الروايات التى تتحدث عن بدء الوحى فى العهد المكى إلا بقدر
معلوم ونقل ثابت, ولكن الذى حدث كان بخلاف ذلك, فقد أسهب الرواة والمصنفون
وأهل الحديث والسير فى تلقى ما طاب لهم من ثمار الروايات الضالة والمخرفة
عن تلك الفترة, وهى روايات تتلبس لباس الحكى عن زمان مبعث النبى وإرهاصات
نبوته ولكنها فى حقيقة الحال روايات تطعن فى نبوة المصطفى طعنا لا ريب فيه
ولا مراء حوله.